الاثنين، 20 أكتوبر 2008

هـــروب عـــاشـــق





ذكر ابيض فى متوسط العمر جالس فى احد الكازينو المطلة على النيل يرشف قهوته ببطء ..يتأمل المياه المضيئة بالون الذهبى البراق وقت ما بعد الظهيرة ،ربما جعله هذا يسترجع الماضى البعيد و يقلب صفحاته الى ان يطويها فينظر الى ساعته انها 7 مساءً .محدثا نفسه " آه كم طال بى الوقت وانا ارتشف هذة القهوة الباردة " . ينهض رمزى على عجلة ،فهو يمشى فى خطوات سريعة واسعة وكأنه يسابق عجلة الزمان ... الى ان يصل الى سيارته المتوقفة امام احد المحال الكبرى ...ويدخل سيارته وينطلق الى اين هو لا يدرى ... و فيما هو منطلق تمر عبر الطريق سيدة ناضجة تحمل عدة حقائب و تمسك فى يديها طفلين ... تتسع حدقتا عيناه " انها هى ...هى حقا نشوى".



يتبع سيرها الى ان تتوقف لتلتقط انفاسها وتعيد ترتيب اغراضها ، فهى على ما تبدوا مثقلة بهموم الحياة وأعباء أولادها...فينادى بإسمها املاً ان يحالفه الحظ وتلتفت إليه.و ما هى لحظات و تقفز النظرات الطفولية بين عينيهما تسترجع زكرياتهما معا.شاباً كان هو فى عقده الثانى و هى كانت اجمل الفتيات على الاطلاق ،لم يكن جمالها فى حسنها فقط وانما حضورها الذى يخطف الالباب ... فهى الفتاه الاكثر حماسة و الهاماً بين زميلاتها و اقرانها فى الجامعة ...كان هو الشاب الاكثر طموحا وذكاء ولكنه لم يكن اجتماعيا فلم يهتم بالمحافل او ثرثرة الشباب ...لم يكن من النوع الذى يجذبك لتبداء معه حوار بيد انك ان تحدثه تجده شخصية مثيرة للفضول بأفكاره و نتوعها ؛ حتى ان فتيات الجامعة كانت تمدح ملامحه الذكورية القاسية بداءً من طول قامته و يداه و شفاه التى تقول بعضهن انها تقطر كلاما كالطوب من فرط صراحته التى لا تعرف المجاملة .


كان رمزى دائما ناجح فى الوصول الى مبتغاه وطرح افكارا تلاقى اعجاب ومديح الاخرين لما بيه من فصاحة البيان ...وكيف لا يكون وهو الاول على دفعته.و قد عُين هو ونشوى كمعيدان بالكلية بعد التخرج مباشرةً ، ثم استكمالا دارستهما العليا سويا رغم اختلاف تخصصاتهما ...وسرعان ما يعودا الى رشدهما ...الى الواقع ؛فهو متزوج وهى ايضا متزوجة ... تسأله نشوى عن ما سار بحياته وهل لايزال يُدرس بالجامعة ...فأجابها انه مجرد عمل شرفى ليس إلا وانه بداء تجارته الخاصة به و زوجته تديرها ... و لم ينجب و انه النصيب ...فهو مشغول بالدراسة و العمل وزوجته يكفيها ما تعانيه من اجهاد فى العمل وهى منكبة على العمل لشغل وقتها و حتى لا ترهق نفسها فى التفكير فيما لايجدى نفعاً...إما هى فتقول أنها متزوجة من رجل محترم يعمل نائب للرئيس التنفيذى فى فرع احد الشركات العالمية...و هو عادةً ما يكون مسافر لظروف عمله ،فقد تقضى ثلاثة اشهر لا تراه.عادة ما تقضى معظم ايامها عند والداتها او والدة زوجها ...أراد رمزى ان يتناول معها شراب و يتحدث معها اكثر لكنها اعتذرت و عرفته على صغيريها طّه و نديم .و فى نظرة آلم يتنمى لو انهما اولاده منها ...و كأنها تفهم عيناه ...تقول "كل شئ نصيب ". ويجيبها رمزى ان هذا صحيح "كل شئ نصيب ولكننا كبشر مسؤلون عن مصائرنا فى بعض الاحيان نوجهها احيانا على الدرب الصواب و احيانا نخطئ "

هنا تستوقفه نشوى بقولها " هكذا انت ... كعادتك ...تجادل وتجادل"

فيضحك وتضحك ...و تسلم عليه و تستاذنه بالانصراف و انها لا كانت فرصة طيبة ان تراه بعد كل تلك السنوات انها 15 عاما من الفراق و مواجهة الحياة ، و هما الروحان الاكثر ملائمة لبعضهما الاخر و لكنهما نجاحا بالعيش و ليس الحياة .


اتجه رمزى الى بيته و عندما فتح الباب وجد زوجته منتظراه بالترحاب مرتدية فستان مخملى و أريج العطور يملئ المكان ...انها تحضر لليلة خاصة على اضواء الشموع ...يذيده الامر دهشة وكأنه احتفال لذكرى الماضى ...تناولا العصير وأكلا وضحكا سويا فهى مهما كانت زوجته ولا يريد ان يخسرها وربما لا يفكر فى خسارتها الان .و بعد مضى ليلة رمانسية للزوجان نهض باكرا و دخل التراس يتأمل نور الصباح و يردد فى نفسه " انها لشقة فاخرة و عيشة مرفهة و زوجة مخلصة ؛لكن لما لست سعيد لا سابق ولا الان !؟"


ظل طيف نشوى يراود مخيلته و لكن ينصرف عندما يفكر كيف انه بذلك يخون زوجته .. تلكم التى و قفت الى جانبه فى بدايته ...ثم تذكر كيف انه محروم من احساس الابوة بسببها و اعتصر الام صدره وكاد قلبه ان ينفجر ... ثم ردد فى نفسه "لست مستعدا للعناية باولاد فأنا لست متواجد دائما لاعتنى بهم وهى ايضا ...هى الاخرى لن تستطيع ...أولاد لا ينقصنى هم الاولاد ...يكفينى الطلاب فى الجامعة و العمل و هى ...و لكنى لست مرتاح ..."

تستيقظ زوجته و تخرج لتضع على وجنته قبلة دافئة و هنا يمسك يدايها بحنان و يضمها الى صدره و يقول "كيف تكون حياتى بدون نجواى؟"

فترد عليه وعلى شفاها ابتسامة "لن تكون لك او لى حياة "

يذيد من ضامته لها " لا استطيع الحياة بدونك "

تقبل يداه بحب و تهمس فى اذنه" بدونك ليس لى حياة و ايامنا سويا فقط هى الحياة "

فيرد رمزى " وجودك معى هو سعادتى "

و لكن يا له من نزاع يطيح بعقله فهو يفكر فى مدى صحة تلك العبارات و لما يرددها ما دام لا يقصدها او يشعر بها ،ربما كان هناك سبب اقوى مدعاة لقول مثل تلك الكلمات ...


يعود رمزى لحياته الروتينية ذات الايقاع السريع تبداء بخطواته المتسارعة داخل مدرج الكلية و استلقائه على كرسية ليلقى المحاضرة و يتجول بنظره بين اعين الشباب والشابات من منهم سيكون رمزى اخر ومن ستكون نشوى ... الى ان يفرغ من المحاضرات فيعود الى الاعمال و شؤنه الخاصة ،و تدور العجلة فى ثبات .عُين مؤخرا معيدة شابة يافعة متحمسة للعمل ...نعم ان خبرتها ضئيلة و تواجه بعض المشكلات و لكن لسبب ما يرى فيها نشوى جديدة تخرج للآفاق. هل من الممكن تكرار ما حدث ؛ ان تترك الجامعة و التدريس للزواج والانجاب ؟!

الى ان حدث نقاش بينهما فصرحت انها ليست من النوع الذى يركن الى الحياة الزوجية او يعتمد على زوج ، وانها تفضل الحياة حرة طليقة بأفكارها .. لا تريد ظلم وزج او ابن يكون لها ... وجهت اليه سؤال " كيف ترى مستقبل ابن لن ترضى امه عن التضحية بحلمها او مستقبلها" ... و لم تنتظر اجابة ...فتقول " اعلم انها أنانية منى و من الممكن ان اندم على هذا القرار ...لكن لندع الايام تفعل ما تشاء".هنا يرد عليها رمزى بصراحته المعهودة " يا استاذة اننا لا نملك سوى الخيارات التى نسلك سبيلها ... فنحن نعيش حاضرنا فقط ، و ربما نتذكر ماضاً مر بنا ، ثم نضع المستقبل بين يدى الله "... ويستكمل "انى لاتذكر زميلة لنا تركت الجامعة رغم ناجحها فى مجالها ...لقد كان لها مستقبل واعد ...لقد تركت التدريس وليست نادمة لتطرق باب المستقبل و تقفل ابواب الماضى ورائها ...تترك حب لايزال يطارحه حب اثبات الذات و يطوف فى عقله وهم المستقبل ...أما هى فكانت تريده و تريد الامان و الاستقرار ...و يالها من معادلة كان التوازن بين طرفيها صعب المنال ...ففضلت التضحية بالحب لتشعر بحب اكبر نحو الحياة ...نحو الاولاد ...اتدرى يا أنسة الان عرفت ما ينقذ الحب من الضياع ..."


ينطلق رمزى مسرعاَ الى سيارته لمقر عمل زوجته ؛وعلى غير عادته يمشى متباطئا فى مشيته لا هى معتدلة ولا سريعة و كأنه يفكر فيما سيلقيه على مسامع زوجته أذا كان سيقيم معبدا للحب ام سيحطم ارجاء المكان ...و يدخل عليها المكتب دون طرق لبابه و يقول " إن على احداٍ منا ملئ هذا الفراغ ..."

و تسأله هى فى اندهاش و تحيط بيه و تمسك بيده فينتزعها ويكرر نفس العبارة " على احداٍ منها ملئ الفراغ"...فتسأله "أين ذلك الفراغ ؟". أجاب رمزى:"لا بد و ان نضحى حتى يقوى الحب "...أما هى فتعرف انه يضحى بوجود طفل له منها ...فتنظر نظرة يأس أنها ستضحى أن هو اراد ... و لكنه يجذبها إليه و يطمأنها انه لا يريد غيرها و انه صادق بكلامه معها ... اما هو فأن التضحية بنظره ان يموت حب قديم فى قلبه حتى يعيش حب جنين يطوق للحياة ...


تمت

ليست هناك تعليقات: